وصايا في وداع رمضان
-----------------------------------
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
وقفنا قبل بضع جمع في أول يوم من شهر رمضان، يوم الجمعة الأغر استقبلنا هذا الشهر العظيم وها نحن اليوم مرة أخرى في يوم الجمعة الأغر نودع شهر الخير والإحسان شهر الذكر والقرآن شهر العبادة والإيمان، الشهر الذي جعل الله فيه الرحمة والمغفرة والعتق من النيران .
إنها وقفات ينبغي أن تثير مشاعر المؤمنين وأن تحرك كوامن قلوبهم ، وأن تستجيش عواطفهم الإيمانية ومشاعرهم الإسلامية ، وأن يتذكروا ما سلف من أيام هذا الشهر ولياليه وأن يتذكروا ما سيستقبلون بإذن الله عز وجل من أيام وليالي قادمات، وصايا في وداع شهر رمضان .
إن هذه الوصايا - أيها الإخوة - تتكرر داماًَ ولا يكاد أن ينقضي شهر رمضان أو تأتي أيامه الأواخر إلا ويعاد مثل هذا الحديث، ونحن نرى اليوم شهر رمضان وهو يودعنا وفي الوقت نفسه يوصينا ويذكرنا .
فينبغي أن نرعي لهذه الوصايا سمعنا وان نصغي إليها بقلوبنا وأن نعزم على أن نمتثلها في سلوكنا وأن نحرص على أن نتواصى بها في مجالسنا ومساجدنا ، وأن نسعى أن نكون بعون من الله - عز وجل - وفضل ممن كتب له القبول ورضوان الله سبحانه وتعالى .
الوصية الأولى : فلا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين
إن من أعظم الجرم وإن من أكبر الخسران أن يعود المرء بعد الغنيمة خاسراً وأن يبدد المكاسب التي يسرها الله عز وجل في هذا الشهر الكريم ، وأن يرتد بعد الإقبال مدبراً وبعد المسارعة إلى الخيرات مهاجراً وبعد عمران المساجد بالتلاوات والطاعات معرضاً ؛ فإن هذه الأمور لتدل على أن القلوب لم تحيا حياة كاملة بالإيمان ولم تستنر نورها التام بالقرآن وأن النفوس لم تذق حلاوة الطاعة ولا المناجاة وأن الإيمان ما يزال في النفوس ضعيفاً وأن التعلق بالله عز وجل لا يزال واهناً لأننا أيها الإخوة على مدى شهر كامل دورة تدريبية على الطاعة والمسارعة إلى الخيرات والحرص على الطاعات ودوام الذكر والتلاوة ومواصلة الدعاء والتضرع والابتهال والمسابقة في الإنفاق والبذل والإحسان ثم ينكس المرء بعد ذلك على عقبه .
إن ذلك أيها الإخوة أمر يدل على استحواذ الشيطان على الإنسان المؤمن وأن خنوس الشيطان في رمضان فترة مؤقتة لم يتمكن الإيمان في القلوب والذكر في النفوس والصلة بالله - عز وجل - في كل آن، حتى تعصم المرء من وساوس الشيطان { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم } ، إن المسألة أيها الإخوة تحتاج إلى أن نتدبر في معناها ومغزاها إن المخالفة لله عز وجل والمعصية لأوامره والانتهاك لحرماته والتجاوز والتعدي على حدوده أمر عظيم تنخلع له قلوب المؤمنين الصادقين .. إنه كما قال سلفنا : " لا تنظر إلى صغر الذنوب ولكن انظر إلى عظمة من عصيت " ، وكان أحدهم يقول : " إن الكافر يرى الذنب كذبابة جاءت على أنفه فقال بها هكذا - أي لا قيمة لها ولا يكترث بها ولا يصيبه الغم مما وقع فيه من المعاصي - أما المؤمن فإنه يرى الذنب كالجبل يوشك أن يقع عليه " ، فلا يزال في هم منه وفي استغفار دائم لله - عز وجل - منه وفي سعي دائب ودائم على أن يكفر ذلك الذنب وأن يجدد التوبة وأن يصحح النية لله عز وجل وأن يستزيد من الخيرات والطاعات .
أيها الإخوة ينبغي لنا أن نبرأ من حال من وصف الله - سبحانه وتعالى - في كتابه بقوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } . إنه ينبغي لنا أن ندرك أن الحرمان من الطاعة بعد التوفيق إليها وأن الوقوع في المعصية بعد الاعتصام منها نوع من عدم رضوان الله - عز وجل - على العبد ونوع من حرمانه من قبول العمل ؛ لأن الله - عز وجل - قد وعد ووعده الحق أن الطاعة تولد الطاعة ، وأن الذي يجاهد في سبيل الله وطاعته أنه عز وجل يسهل له الطريق ويمهد له السبيل { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } هكذا وعد الله عز وجل ؛ فإن كنا صادقين في جهادنا لأنفسنا واجتهادنا في طاعة ربنا ؛ فإن الله - عز وجل - يسَّر لنا امرنا وجاعل لنا عاقبة أمرنا خيراً لنا من عاجلتنا وجاعل خير أعمالنا خواتيمها وجاعل كل يوم من الأيام زيادة في الخير والطاعة والقرب له سبحانه وتعالى .
ولذلك ينبغي لنا أن نتذكر - أيها الإخوة - أن الارتداد على الأعقاب وأن المخالفة بعد الطاعات ، وأن الوقوع في المعاصي بعد المداومة على الخيرات هو من أعظم البلاء ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن القيم رحمة الله عليه : " إن أعظم ما يبتلى به العبد وقوعه في الذنب ، وأعظم من ذلك أن لا يشعر بأثر الذنب فذلك موت القلوب " .
-----------------------------------------------